قصة لوط عليه السلام

فهرس كتاب ألف باء في قصص الأنبياء 

لوط ابن هاران بن تارخ، تارخ هو (آزر) أبو إبراهيم، إبراهيم وهاران وناحور أبناء تارخ، فيكون ابن أخ إبراهيم عليه السلام، ذكره الله سبحانه وتعالى في القرآن سبعاً وعشرين (27) مرة في أربع عشرة سورة، وكان أبوه قد مات وهو صغير فتربى في بيت تارخ مع عمه إبراهيم، فأحب عمه حباً شديداً.

ولما كانت معجزة النار التي أُلقي فيها إبراهيم عليه السلام فكانت عليه برداً وسلاماً، وقد شاهد الناس هذا المشهد ولم يؤمنوا؛ آمن لوط عليه السلام، ولمّا هاجر إبراهيم عليه السلام هاجر معه لوط: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (العنكبوت:6) وكنا قد ذكرنا كيف أنه أمره إبراهيم عليه السلام لَمّا رجع من مصر إلى فلسطين أن يذهب إلى المؤتفكة (سَدُوم)، وسدوم قرية عند البحر الميت والذي كان يسمى (بحيرة لوط)، وكانت مركزاً تجارياً ومحطة سفر، كان الناس المسافرون يقفون عندها، وكانوا قوماً كفرة ليس فيهم مؤمن، يقول الله سبحانه وتعالى على لسان الملائكة الذين حطّموا ودمّروا قرية سدوم: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ) (الذاريات:35-36) فقط بيت لوط كان مؤمن والباقي كلهم كفرة فجرة، من أشد الناس فسقاً وفجوراً، حتى أنهم تفننوا في الفجور وابتدعوا فجوراً لم يفعله أحد قبلهم من العالمين: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (الأعراف:80-81) فكانوا أول من ابتدع فاحشة اللواط، فكان فيهم الشذوذ الجنسي([1]).

أقبح الصفات

يقول الله سبحانه وتعالى على لسان الملائكة: (قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) (الذاريات:32) وصفوهم بأنهم مجرمين، وقال لهم نبيهم لوط عليه السلام (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ) (الشعراء:165-166) تركوا معاشرة النساء وصاروا يعاشرون الرجال، وكانوا يفعلونها علناً، ما كانوا يختبئون بل يبصرون بعضهم البعض: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) (النمل:54-55) انظروا الصفات التي وصف بها قوم لوط ما وصف بها قوم في القرآن كما وصف قوم لوط: (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) (العنكبوت:من الآية29) يجلسون في النوادي يستمعون للمجون ويفعلون المنكرات وقد فقدوا كل أنواع الحياء حتى أنهم كانوا يخرجون أصوات الريح في النوادي ويتضاحكون.

وقد تجمعت في قوم لوط أقبح صفات الشر، وقد جمعت ما وصفوا به، وهي عشر صفات:

1. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ

6. أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ

2. قَوْمٍ مُجْرِمِينَ

7. وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ

3. قَوْمٌ عَادُونَ

8. وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ

4. أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ

9. الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ

5. قَوْمٌ تَجْهَلُونَ

10. كَانُوا ظَالِمِينَ

لوط يدعوهم فيعرضون

وتعِب معهم لوط عليه السلام وهو يدعوهم: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِي * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء:160-164) هي دعوة كل الأنبياء إلى التوحيد وترك الكفر والفجور، ولكن ماذا كان الرد؟ (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (العنكبوت:من الآية29) هو نفس الرد الذي رد به قوم نوح وهود وعاد عندما تحدّوا أنبياءهم، وفي الآية الأخرى: (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ) (القمر:36) حذرهم ونبأهم أنكم ستُحطمون، وسيبطش بكم الله عز وجل، وفي الآية الأخرى (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (الأعراف:82) الجريمة أنهم يتطهرون!!، لا يريدون في هذه القرية إلا أناساً كلهم فحش وفسق وفجور، لا يريدون أحداً من المتطهرين، فقد كانوا جميعاً أهل فسق وفجور وفحش إلا لوط وابنتاه.

تهديده بالإخراج .. والتحدي

وعزموا على إخراج لوط عليه السلام وطرده من القرية: (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنْ الْقَالِينَ([2]) * رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) (الشعراء:167-169) فأعلن رفضه وغضبه عليهم، ولجأ إلى الله لينجيه من ظلمهم ومكرهم، لمّا يئس منهم وأصّروا على إخراجه، جلس في بيته يعبد الله عز وجل.

ولم يكن عليه السلام عنده عصبة أو عشيرة تحميه أو تدافع عنه، فهو مهاجر ليس معه أحد يأوي إليه فجلس في بيته وأخذ يدعو عليهم: (قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) (العنكبوت:30) عندها استجاب له الله سبحانه وتعالى وأرسل الملائكة: جبريل وميكائيل وملك الموت وفي رواية وكان معهم إسرافيل عليهم السلام.

الملائكة عند إبراهيم

فذهبوا إلى إبراهيم أولاً ليبشروه بإسحاق عليه السلام، فسألهم إبراهيم عليه السلام: (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) (الذاريات:31-37) مسومة أي معلّمة فكل واحد له حجر خاص به مسوّم معّلم.

ودار حوار بين إبراهيم عليه السلام والرسل ذكره سعيد بن جبير والسدي وقتادة ومحمد بن اسحاق: "أن إبراهيم عليه السلام جعل يقول: أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن؟ قالوا: لا، قال: فمائتا مؤمن؟ قالوا: لا، قال: فأربعون مؤمناً؟ قالوا: لا، قال: فأربعة عشر مؤمناً؟ قالوا: لا، قال ابن اسحاق: إلى أن قال: أفرأيتم إن كان فيها واحد؟ قالوا: لا، (قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا، قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ) "([3]) وقد جاء هذا الأمر في القرآن الكريم: (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ) (العنكبوت:31-32) وفي ذلك تطمين لإبراهيم عليه السلام أن التحطيم سيكون بعد إخراج لوط عليه السلام، وفي آية أخرى إشارة إلى جدال إبراهيم عليه السلام معهم: (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ) (هود:74) فلما ذهب عنه الخوف، لمّا جاءوه ولم يأكلوا، وجاءته البشرى، كأنه عليه السلام كان يرغب في أن يسلموا: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) (هود:75) فهو حليم ما كان يغضب، حتى أنه كان يكرم من آذاه، فرغم أن قوم لوط أهل فحش وفسق كان يريد لهم مهلة زيادة، وهو الأوّاه الذي يتأوه "آه-آه" ويتألم خوفاً من الله، يتذكر ذنوبه فيتأوه، منيب: كثير الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، فجاء الأمر من الله عز وجل أن: (يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود:76) انتهى الأمر، أمر محكوم محسوم غير مردود.

الملائكة إلى سدوم

وتوجه الملائكة نحو سدوم جاؤا في صورة رجال في منتهى الجمال اختباراً أخيراً لسدوم، ولإقامة الحجة عليهم، وقال لهم الله سبحانه وتعالى انتظروا شهادة نبيهم عليهم لا تدمروهم حتى تسمعوا نبيهم يحكم عليهم، وصل هؤلاء الملائكة عند أطراف القرية وإذا بواحدة من بنات لوط عليه السلام تسقي الماء، تأتي بالماء من خارج القرية، وكان للوط عليه السلام ابنتان: الكبرى (ريثا) والصغرى (ذغرتا).

فرأتهم وخافت عليهم لأنها تعلم أن أهل القرية لو رأوا هؤلاء الرجال في هذا الجمال سيريدون الفجور بهم، فأسرعت نحو أبيها وأخبرته بأنه قد جاء الشبان هؤلاء وأخشى عليهم، فأسرع إليهم لوط عليه السلام وقال: ما شأنكم؟ قالوا: ضيوف، فاستحى أن يردهم: (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ) (هود:77) وكان قومه من قبل قد نهوه أن يستضيف أحد: (قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنْ الْعَالَمِينَ) (الحجر:70) فكان يريدهم أن يرجعوا، لكن لمّا قالوا ضيوف ما استطاع أن يردهم فأخذهم معه إلى بيته، وفي الطريق يريد أن ينبههم ويبين لهم الفجور الذي في قومه، وما قد يلاقوه، ولكن في نفس الوقت لا يريد أن يقول لهم ارجعوا صراحة، فجعل يعرّض([4]) الكلام، واختار كلماته بعناية -وهذا من الأدب الرفيع- قال: "والله يا هؤلاء ما أعلم على وجه الأرض أهل بلد أخبث من هؤلاء، ثم مشى قليلاً، ثم أعاد ذلك عليهم حتى كرره أربع مرات"([5]) والملائكة تسجل هذه الشهادة عليهم، لأنهم أمروا أن لا يهلكوهم حتى يشهد عليهم نبيهم بذلك، ووصل إلى البيت فخبأهم في البيت.

وكانت امرأة لوط كافرة واسمها (والهة)([6]) وتشاركهم في هذا الفحش، فأخبرت القوم وقالت لهم: إن في بيت لوط رجالاً ما رأيت مثل وجوههم قط، هؤلاء أجمل شباب رأيتهم في حياتي، وصل الخبر لأهل القرية الفاسدين، فأسرعوا كلهم بتظاهرة نحو بيت لوط عليه السلام: (وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ) يريدون الآن أن يرتكبوا فاحشة، و(وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) (الحجر:67).

لوط يدافع عن ضيوفه

فوقف لوط أمام البيت يدافع عن ضيوفه: (وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ * قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) (هود:78-80) بناته على التفسير الراجح هن النساء([7])، فهو يعتبر نفسه أبو هؤلاء، أما الذي قال أن لوط عليه السلام عرض عليهم أن يزنوا ببناته فقد فحش وأخطأ، حاشاه عليه السلام، كيف يبيح الزنا لبناته وهو نبي كريم فالتفسير الأرجح (هَؤُلَاءِ بَنَاتِي) يعني عندكم النساء، زوجاتكم اللاتي أحل الله لكم.

ومن فحشهم يقولون: أنت تعلم ما نريد، ولا نحتاج أن نخبرك فعليك أن تسلمنا ضيوفك لنفعل بهم الفاحشة، فتألم عليه السلام أنه ليس لديه عائلة، أو قبيلة، أو أناس مؤمنون، يدافع بهم عن ضيوفه، فلم يؤمن معه أحد إلا بناته حتى زوجته كفرت به، وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ([8])، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ، وَنَحْنُ أَحَقُّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ([9]) إِذْ قَالَ لَهُ: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)([10]) يقول المفسرون فما أرسل الله تعالى بعده نبياً إلا في منعة من قومه، لا يرسل نبي بعد ذلك إلاّ في عائلة قوية أو قبيلة قوية حتى تحميه.

وفي الآية الأخرى: (وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ * قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِي * وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِي * قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنْ الْعَالَمِينَ * قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * لَعَمْرُكَ([11]) إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الحجر:67-72) فالشهوة غلبتهم حتى صاروا عُمْياً لا يرون الحق، وأرادوا أن يقتحموا البيت، ونبي الله لوط يمانع قومه من خلف الباب وهو مغلق ويقول: "لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ".

الملائكة تتدخل

وخلال ذلك كان أمراً مستغرباً يلحظه لوط عليه السلام؛ ألا وهو أن الضيوف هادئون مطمئنون رغم أن المسألة متعلقة بهم، والقوم يطلبونهم لأنفسهم!!، فهو حتى الآن لا يعلم أنهم ملائكة: (فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) (الحجر:61-64).

وعند ذلك لمّا وصل الأمر إلى نهايته أفصحت ملائكة الرحمن عن هويتهم ووضّحوا للوط مهمتهم: (وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ * إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا([12]) مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (العنكبوت:33-35) فطمأنوه وبيّنوا له ما عليه فعله: (قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (هود:81-83) لن يستطيعوا أن يؤذوك أو يؤذونا، ولديهم مهلة إلى الصبح حتى يتمكن لوط وأهله أن يخرجوا.

فخرج جبريل عليه السلام فضرب وجوههم خفقة بطرف جناحه فطمست أعينهم جميعاً حتى قيل أنها غارت بالكلية ولم يبق لها محل ولا عين ولا أثر: (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ) (القمر:37) فأخذوا يتوّعدون، وقالوا: سحرتنا ما عدنا نبصر إذا كان الغد كان لنا ولك شأن، رغم كل ما حصل ما تابوا، فأخذوا يتحسسون الجدران وهم عائدون إلى بيوتهم، ولم يتوبوا، وأمرته الملائكة بالخروج: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ * وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) (الحجر:65-66).

لوط ينجو مع أهله

ونجّى الله لوطاً وأهله المؤمنين، حيث أن زوجته الكافرة أهلكها الله فيمن أهلكهم، فهي ليست من أهله بعد أن كفرت([13]): (فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (الأعراف:83-84) وخرجوا في وقت السحر من الليل: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) (القمر:34-35).

فخرج لوط عليه السلام وما معه إلا ابنتاه ولم يخرج معه أحد من الرجال، زوجته لم تخرج، وقيل أنها خرجت معهم "فلما سمعت الصيحة وسقوط البلدة التفتت إلى قومها وقالت: واقوماه! فسقط عليها حجر فدمغها وألحقها بقومها، إذ كانت على دينهم، وكانت عيناً لهم على من يكون عند لوط من الضيفان"([14]) فأصابها ما أصاب قومها: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (التحريم:10) وقد ذكرنا أقوال العلماء في معنى قوله: "فَخَانَتَاهُمَا" في معرض ذكر قصة نوح عليه السلام، يقول ابن عباس: "ما بغت امرأة نبي قط، إنما كانت خيانتهما في الدين" ويقول ابن كثير: "ومن قال بخلاف هذا فقد أخطأ خطأً كبيراً".

الصيحة وحجارة السجيل المنضود المسوّم

فلما ابتعدوا عن القرية وخرج الصبح وظهر الشروق، جاء العذاب، يقول الله سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ * فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ) (القمر:83-39) كيف كان العذاب؟ جاءهم جبريل عليه السلام فأدخل جناحه تحت القرية فرفع القرية كلها تحت جناحه وارتفع بها إلى السماء حتى سمعت الملائكة صياح ديكتهم ونباح كلابهم، وحتى سمعوا هم تسبيح الملائكة، وبدأ الرجم عليهم في السماء، صخور ترجمهم كل واحد له صخر مسوّم (معلم ومخصص له) ثم صرخ بهم جبريل صيحة فأخمدهم جميعاً ثم أخذ القرية فقلبها فأنزلها في الأرض، جاء وصف ذلك في القرآن الكريم: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ([15]) * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر:73-77).

فكان عذاباً مخصّصاً لقوم عصوا الله معصية كلها فحش وفجور، فكان لكل واحد منهم حجر من الطين شديد الصلابة: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ([16]) * مُسَوَّمَةً([17]) عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (الحجر:82-83)، وقال سبحانه وتعالى عن قوم لوط: (وَالْمُؤْتَفِكَةَ([18]) أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى * هَذَا نَذِيرٌ مِنْ النُّذُرِ الْأُولَى) (النجم:53-56) حيث قلبها فأهوى بها منكّسة رأساً على عقب.

فهكذا دُمرت سدوم في منطقة البحر الميت (أريحا) وتركت أثراً للعالمين ليحذروا من عذاب الله ويحذروا من الفواحش ومن أعظمها فاحشة قوم لوط.

حكم اللائط في الإسلام

ويناسب المقام هنا أن نذكر حكم اللائط كما نقله ابن كثير: ذهب من ذهب من العلماء إلى أن اللائط يرجم سواء كان محصناً أم لا([19])، ونص عليه الشافعي وأحمد بن حنبل وطائفة كثيرة من الأئمة، واحتجوا أيضاً بما رواه الإمام أحمد وأهل السنن عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ".

وذهب أبو حنيفة إلى أن اللائط يلقى من شاهق جبل ويتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط لقوله تعالى: "وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ".


([1]) يوجد اليوم من يقول أن الشذوذ الجنسي هو فطري وأنه موجود في التركيب الجيني للإنسان، فهذا كلام سخيف، بل هو انحراف وفسق وفجور ابتدعه هؤلاء؛ ما كان في البشر، فلو كان كذلك لكان في البشر قبل لوط عليه السلام.

([2]) القلى: شدة الغضب.

([3]) ابن كثير.

([4]) التعريض: الكلام غير المباشر.

([5]) ابن كثير.

([6]) زوجة نوح عليه السلام اسمها (والغة).

([7]) كل نبي تُعتَبر النساء بناته، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات لكل المؤمنين: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) (الأحزاب:من الآية6).

([8]) الركن الشديد ويعني به الله عز وجل.

([9]) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".

([10]) رواه البخاري.

([11]) قسماً بحياتك يا محمد، يقول المفسرون: ما أقسم الله بحياة إنسان غير محمد صلى الله عليه وسلم إكراماً له وتشريفاً.

([12]) رجزاً: عذاباً.

([13]) مثلما كان من قبل مع نوح وابنه الكافر: (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (هود:46).

([14]) ابن كثير.

([15]) السجيل: الطين، وهي كلمة فارسية معرّبة، وهو الشديد الصلب.

([16]) منضود: متتابع.

([17]) مسوّمة: معلّمة ومخصّصة.

([18]) المؤتفكة: سميت كذلك لأنهم كانوا يعبدون شجرة تسمى المؤتفكة، وهم قرى قوم لوط.

([19]) قياساً على زنى المحصن، حيث أن اللواط ليس فيه تخفيف الزاني غير المحصن.

فهرس كتاب ألف باء في قصص الأنبياء

فكرة واحدة على ”قصة لوط عليه السلام

Leave a Reply أترك ملاحظتك